• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الذكاء الإستراتيجي للقائد الإمام عليّ «ع» أنموذجاً

علي حسين

الذكاء الإستراتيجي للقائد الإمام عليّ «ع» أنموذجاً

◄تعوز المجتمع الاسلامي الموزّع في أصقاع الأرض، قيادات ذكية، تنقله من واقع التخلّف إلى حقيقة العلم والتطوّر، مع توافر متطلبات التقدم المادّية والمعنوية، ولكن بسبب ضعف أو غياب العقلية السياسية ذات الذكاء الإستراتيجي، بقيت الدول الإسلامية تراوح في مربع الجهل والتعصّب والتخلّف، فيما يتقدم العالم إلى أمام.

وتشير الثوابت التاريخية إلى أدلة قاطعة، تؤكّد الدور الحاسم للذكاء في نجاح القادة أو فشلهم بخصوص إدارة الدولة، نزولاً إلى إدارة المؤسسات والمديريات الأقل حجماً ومسؤولية، بمعنى أنّ القائد سواءاً كان في مرتبة عليا أو دنيا، فهو محكوم بعامل الذكاء وحتمية توافره في شخصيته، تفكيراً وسلوكاً.

ولا نعني بالذكاء هنا، ذلك الذكاء المتعارف عليه، إنّما هناك ذكاء إستراتيجي له آفاقه الواسعة جدّاً، وقدراته الكبيرة، حيث يمنح حامله القدرة على رؤية الوقائع بوضوح أشدّ، ويستشرف المستقبل بوضوح أدقّ، ويبني أحكامه وأفكاره ويتخذ قراراته العملية المهمّة، استناداً إلى مَلَكة الذكاء الإستراتيجي التي يتحلّى بها، ولا ينحصر الأمر بالقائد السياسي فقط، بل جميع الذين يتسنمون مناصب قيادية في المؤسسات والمصانع والدوائر وسواها، صعوداً إلى قيادة الدولة ككلّ، حيث يبرز بوضوح ذكاء القائد السياسي في القيادة الناجحة.

النموذج القيادي حاضراً

وهذا تحديداً هو سرّ نجاح الشخصيات القيادية التاريخية المعروفة لدينا، كونها نجحت بالوصول إلى أعلى المراتب بشعوبها وأُمّمها، لما تتمتع به من ذكاء عالٍ متفرد، يساعدها على رؤية الأهداف المطلوبة، وكيفية تحقيقها بوضوح وبإرادة خلّاقة.

ولدينا في هذا الصدد شخصية قيادية إسلامية عظيمة، تتمثل بالتاريخ القيادي السياسي الناصع للإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، حيث تمّ تطبيق ثوابت الدولة المدنية في عهده، ولعلّ أروع الأدلة في هذا المجال، مساعدة القائد السياسي الأعلى على ترسيخ القيم المدنية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، دعم الصوت المعارض، وحماية حقّ الرأي وحرّيته، ناهيك عن المساواة العظيمة كنهج تمّ تطبيقه على نحو جوهري، ليتمّ القضاء على الفقر كلّياً في الدولة الإسلامية، وهو هدف عجزت عن تحقيقه دول معاصرة.

ولسماحة المرجع الديني آية الله العظمى، السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) رؤيته الواضحة للقائد السياسي، ودرجة ذكائه وحنكته، ومقدرته على إقامة دولة المؤسسات المنضبطة ببنود الدستور، تلك الدولة التي كان مثالها الأفضل في عهد سيدنا وإمامنا ونموذجنا السياسي الأمثل، الإمام عليّ (ع)، لذا سيستند مقالنا هذا إلى رؤية سماحة المرجع الشيرازي لأهمية ذكاء القائد السياسي وحنكته، في إدارة الدولة المدنية، ودوره في البناء المجتمعي والسياسي الأرقى والأفضل.

مع أنّنا جميعاً نقرّ ونعترف بصعوبة الخوض في السياسة ودهاليزها، ذلك أنّ العمل في هذا المعترك ليس متاحاً للجميع، وإذا صار الأمر على هذه الشاكلة، كما هو الحال في كثير من الدول الإسلامية راهناً، فإنّ الفشل الذريع هو النتيجة المؤكدة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي، في كتابه القيّم الموسوم بـ(السياسة من واقع الإسلام):

إنّ "السياسة بحث واسع مترامي الأطراف، وبحر عميق عريض لا يبلغ غوره وسواحله إلّا القليل.. القليل.. فهي كيفية إدارة شؤون الناس في السلم والحرب، والأخذ والعطاء، والشدّة والرخاء، والاجتماع والافتراق، وغير ذلك. وإذا علمنا أنّ الناس كما يختلفون في أشكالهم، وألوانهم، ولغاتهم.. كذلك: يختلفون في أذواقهم، وعقولهم، وعواطفهم. ويختلفون في إدراكهم، وفهمهم، وتحليلهم. ويختلفون في خلفياتهم، ونظراتهم، ومعطياتهم. فبين شباب لا ثقة لهم بفكر الشيوخ. وبين شيوخ لا ثقة لهم بتجلّد الشباب. ومن هنا تلعب الأهواء، والميول، والاتجاهات.. في هذا المجال أدوارها الفعّالة بين حسد، وغبطة، وتنازع على الصعود، وغير ذلك الكثير.. والكثير.. والكثير..".

ومع ذلك يبقى نموذج القائد السياسي الناجح حاضراً أمام الجميع، متمثلاً بقائد الدولة الإسلامية، الإمام عليّ (ع)، الأمر الذي يدلل بوضوح تام على الذكاء ودوره في بناء الدولة وتسيير الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية لها.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول قيادة الإمام عليّ (ع):

"كانت سياسة أمير المؤمنين (ع) العملية خير درس للقادة وللمسلمين في تطبيق حياتهم العملية السياسية عليها، كما كان ذلك بالنسبة لرسول الله (ص)".

الزهد بالسلطة وامتيازاتها

يُعدّ الزهد بالسلطة، وعدم الاهتمام بما تمنحه من امتيازات للقائد، من أهم شروط النجاح، لذلك بالإضافة إلى كون الزهد مَلَكة أو صفة يتصف بها القائد المتميز، لكنّها في الوقت نفسه، نابعة من الذكاء الإستراتيجي الذي يتمتع به ذلك القائد، حيث ينبذ جميع العوامل التي يمكن أن تؤثّر على عمله وإدارته للدولة وقراراته ذات التأثير المصيري على الأُمّة أو الشعب.

ولعلّ المشكلة الكأداء التي واجهت الحكومات الإسلامية على مدى تاريخها، تتمثّل بالقدرة على الزهد بالسلطة، أو العكس، أي الوقوع بين براثن السلطة وإغراءاتها، وهذا ما حدث للعديد من حكّام المسلمين، حين استأثروا بالسلطة وغاب الحقّ عن بصائرهم.

فاستشرى الظلم، وانتشر الفساد والقهر والجهل، في ظل حكومات فاسدة وحكّام قهريين فاشلين، الأمر الذي شكّل قاعدة أو جذور لحكومات إسلامية مستبدة راهنة، والسبب دائماً هو تشبث القادة بالسلطة وامتيازاتها، وغياب الذكاء لدى الحكّام الذي ينعكس بدوره على الشعوب وطبيعة حياتها وحقوقها.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الشأن: "ما كان أهون عند الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) من الدنيا وما فيها. فالمال، والحكم، والسلطة، والفرش، واللباس، والقصور، والأكل، والشرب.. كلّها عند عليّ (ع) لا شيء، إلّا بمقدار الحاجة الضرورية". ويضيف سماحته قائلاً: "أربع سنوات أو أكثر قضاها الإمام أمير المؤمنين (ع) بين الكوفة والبصرة، وهو الرئيس الأعلى للبلاد الإسلامية الواسعة الأطراف. خلال هذه المدة الطويلة لم يشترِ من مال المسلمين ثياباً لنفسه، ولم يأخذ من أموال البصرة والكوفة شيئاً لذلك. بل ظل على ثياب المدينة كلّ هذه المدّة الطويلة، إلّا إذا اشترى من عطائه الخاص كأضعف مستضعف من مسلم آخر في طول البلاد الإسلامية وعرضها".

هكذا هو النموذج الأمثل للقائد الأعلى، ليس في ما يخص الدولة وإدارتها، إنما يشمل هذا الأمر جميع المؤسسات التي يقف عليها مدير أعلى، فالذكاء في الإدارة واتّخاذ القرار المناسب، وطُرق تنفيذه، كلّها عوامل تُسهم في نجاح أو فشل القائد.

معالجات لابدّ منها

القائد والمدير ومَن يتصدر الناس، يحتاج إلى النموذج لكي يصحح أخطاءه وفقاً لتجربة النموذج، ولعلّ المشكلة الكبرى التي تعاني منها الحكومات الإسلامية وقادتها، هي إهمالهم للنموذج الناجح، تحت ضغط إغراءات السلطة وامتيازاتها من جانب، وضعف النفس وعدم القدرة على التحكم بها من جهة ثانية، بمعنى أنّ النموذج حاضر تاريخياً، ولكن المشكلة في القادة أنفسهم، بسبب ضغط النفوس.

بخصوص النموذج يقول سماحة المرجع الشيرازي:

"في الوقت الذي عمت الخيرات بلاد المسلمين وبفضل الإسلام، فكان المسلمون وغير المسلمين يرفلون في نعيم من الطيّبات. وكانت الكوفة ـ عاصمة الإمام أمير المؤمنين (ع) ـ لا تجد بها إلّا المنعَّم من الناس. في مثل هذا الظرف تجد سيِّد الكوفة، وسيِّد البلاد الإسلامية، وزعيم الإسلام: أمير المؤمنين (ع) لا يأكل حتى ما يأكله أدنى الناس".

إذن المطلوب تطبيق النموذج على الواقع، ويتمّ ذلك من خلال:

- الترفع عن الصغائر، واستخدام الذكاء الإستراتيجي بالصورة الصحيحة والمناسبة.

- وضع البنود التشريعية الفاعلة لردع مصادر الانحراف وأنواعه.

- مساهمة عقلية القائد في بناء الدولة المدنية انطلاقا من ذكائه ومرجعياته المعرفية والثقافية عموماً.

- إنشاء ركائز قوّية لدولة المؤسسات والفصل بين السلطات.

- التركيز على منظومة التربية والتعليم لجميع المراحل.

- حثّ المنظمات الحكومية والأهلية للقيام بدورها التثقيفي التوعوي المتواصل.

- الابتعاد عن العسكرة وإظهار معالم الدولة المدنية بصورة واضحة.

- العمل بمبدأ تفويض السلطة للآخرين وعدم الاستئثار بالسلطة والامتيازات، من خلال تفعيل مبدأ المشاركة لتعزيز العمل الجماعي وثقافة المؤسسات.

يحدث هذا كلّه، عندما يتمتع القائد أو المدير بمؤهلات الذكاء الإستراتيجي، ومن ثم العمل على توظيفها بالصورة الصحيحة في واقع مؤسسات الدولة وتوابعها، بمعنى أوضح، أن يعمل رأس الدولة بإخلاص على البناء المدني لجميع المؤسسات التي تدعم قيام دولة مدنية معاصرة.►

ارسال التعليق

Top